كتب : سيد محمود
يثري الناقد والمؤرخ السينمائي الكبير حسن حداد المشهد السينمائي ،ليس فقط بكتاباته النقدية بل قدرته على أرشفة رحلة الفيلم السينمائي عبر تاريخه ،وفى أصداره الجديد “أفلام لا تغادر الذاكرة (بعنوان تعريفي فرعي هو رؤية نقدية لأفلام أجنبية قديمة) ـ الجزء الثالث-يكشف “حداد”أهم الأعمال التى صدرت فى فى الفترة من 2008 إلى 1997،لما بها من حراك سينمائي لمخرجين مهمين أثروا وكانت لهم بصماتهم فى السينما العالمية ، وركز على خمسة عشر فيلما تعد من أيقونات السينما التى أثارت جدلا عند عرضها ، وقد أهدى الناقد الكبير كتابه الى الناقد الكبير قاسم حداد،ومن الأفلام التى تناولها المؤلف بالتحليل والرصد ” فرصة أخيرة يا هارفي” و” صاحب الـ”غران تورينو”و تشارلي ويلسون”و “وادي إيلاه ..حزن”و لملكة،و”تيتانك”، وبابل الحب المفتقد ، وابتسامة الموناليزا،ومباشر ، وأزهار متكسرة، وأفلام أخرى تناولها فى الجزء الثالث من سلسلة أفلام لا تغادر الذاكرة .
وقد قام الناقد السينمائي رامي عبد الرازق لتقديم اللإصدار الجديد” الجزء الثالث ” ..وكتب :”تتزامن محاولتي لكتابة مقدمة لأحدث اصدارات الكاتب والناقد والمثقف الكبير حسن حداد مع احتفاله واحتفالنا جميعا بمرور عشرين عاما على انطلاق موقعه السينمائي المميز المهم سينماتك والذي يخطو نحو عقد جديد محملا بأرشيف نقدي ومعلوماتي ضخم ونادر، قلما يصل عبر جهد فردي لهذه الدرجة من التميز والمكانة غير المسبوقة التي تحتاج إلى طاقة مؤسساتية كاملة، لكنه بسماحة التواضع ومساحات الدأب الواسعة ينهض به منفردا وفريدا وفاردا لروح مشبعة بالحب الكامل للسينما والشغف بالجلوس امام الشاشة الكبيرة مشاهدا ومحللا وقارئ و(أرشيفجي) من طراز رفيع.
في كتابه الجديد أفلام لا تغادر الذاكرة (بعنوان تعريفي فرعي هو رؤية نقدية لأفلام اجنبية قديمة) ـ الجزء الثالث- يقدم حداد قراءات لخمسة عشر فيلما أمريكيا عبر كتابة انطباعية دافئة، متبوعة بكم كبير من الصور التوضيحية واللقطات التي تحاول أن تعادل او حتى تتجاوز في بعض الاحيان المحتوى المكتوب عن الافلام، بالإضافة إلى بطاقة تعريف تفصيلية عن كل فيلم، بما فيها أيضا أرقام الإيرادات التي حققتها بعض هذه الأفلام في سنوات عرضها.
ينهض الكاتب بمادته مرتبة زمنيا في تدرج تنازلي؛ ما بين اعوام 2008 و1997 وكأننا في رحلة عبر آلة الوقت نحو الأبعد، او استلهاما لمنطق الذاكرة نفسها؛ وهو استدعاء ما هو أقرب ثم التوغل نحو الماضي تدريجيا – وصحيح أن لدينا تحفظا على العنوان الفرعي لان غالبية الافلام المكتوب عنها لا يمكن توصيفها بالقديمة! لأن معظمها لا يزال نابضا بروح متجددة وحية يصعب معها ان نقرن وصفها بالقدم حتى ولو من باب التوصيف الزمني الجاف.
بينما تتخذ مادة الكتاب هيئتها في شكل حديث حميمي، شخصي، انطباعي “هوفمان هو أحد المفضلين لدي، احرص شخصيا على متابعة أخباره وافلامه، وذلك لتقديري وإعجابي الشديد بموهبته ونجوميته، مع التأكيد على أن اي فيلم جديد له لابد أن يكون به شيء مهم” ص 37-38
وتضاف هذه الحميمية إلى قدر كبير من الدماثة التحليلية، والخُلق النبيل في التعاطي مع جماليات السينما انطلاقا من المبادئ التي سبق وأشرنا إليها؛ الحب والشغف، ووصولا إلى الولع الكامل دون مجاملة او انحياز مفرط “ربما لأول مرة نشاهد فيلما امريكيا يتناول العلاقة الأمريكية السعودية بشكل مباشر بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر، إلا أنه (الفيلم) لم يحاول الدخول في عمق هذه العلاقة، ومناقشتها من وجهة النظر الأمريكية، ولا أعتقد أن صناع الفيلم قد اهتموا بالكشف في دهاليز هذه العلاقة، بل تفرغوا لصناعة فيلم أكشن عادي، ومحبوك الصنع، مليء بالمطاردات والمعارك الدموية، التي من الممكن حدوثها في أي بقعة من جغرافية ساخنة من العالم” ص76
كذلك يبث الكاتب في مادته تعبيرات المشاهدة المنزلية التي لا يخلو وقت أي متابع أو متخصص من ممارستها، وهو ما يؤطر بعض الموضوعات بنوع من الدفء المستحب خاصة ان توجه الكتاب الأساسي هو استعادة أفلام مضى على عرض بعضها ربع قرن تقريبا.
من الحميمي أيضا أن الكاتب يشاركنا بعض من طقوسه الخاصة في مشاهدة الأفلام وقراءتها والكتابة عنها، كما يتمكن بهدوء ودون افتعال من رسم خريطة مبسطة لحركة أي سينيفيلي بين دور العرض في دولة البحرين المشهورة بدور العرض التي كانت محج أساسي للعديد من محبي السينما في منطقة الخليج العربي خاصة القادمين من السعودية قبل عصر الانفتاح الثقافي.
تبقى الإشارة إلى وجود ملاحظتين في منهج او أسلوب الكتاب نتصور انه من الضروري أن نتوقف امامهم.
الأولى: تتعلق ببعض المواد المكتوبة عن الأفلام مثل فيلم “الغزو” والذي جاءت في عدد محدود من الكلمات وبشكل شديد القصر وانطباعات أسرع من الإيقاع الخاص ببقية المواد، والفقرات القليلة عن الفيلم تبدو أقرب للخبر الصحفي منها لأي تحليل انطباعي كان أو تفكيكي.
الثانية : تتعلق ببعض الأفلام التي يبدو أن الكاتب لا يكن لها محبة كبيرة، ولا يملك ناحيتها تلك العاطفة الانطباعية التي ميزت كتاباته عن أفلام أخرى، والمثال الاقرب لهذا هو فيلم “المترجمة” لنيكول كيدمان – وهي واحدة من الممثلات المفضلات لديه والاقرب إلى قلبه ومزاجه السينمائي- حيث يبدو مثل محب غاضب من خذلان حبيبته التي كان ينتظر منها موعدا غراميا جميلا كما عودته، فالأفلام التي يقدمها ممثلونا المفضلون هي في تجليها الشعوري مواعيد غرامية منتظرة، واستمتاعنا بالفرجة عليها هو لقاء عاطفي يُفرح الحواس ويصيغ كمياء الانفعال بمعادلات براقة ومبهجة. وحين نشاهد فيلما للمفضلين إلى مزاجنا دون أن يأتي على هوانا، يحل الخزلان محل البريق ويبهت تلقينا لدوبامين النشوة حد الخفوت.
أفلام مثل هذه لا شك سوف تغادر الذاكرة، وبقائها ضمن مادة الكتاب هو درجة من الحياد المُشوِش على استيعاب منطلقات التناول، وبالتالي وجب علينا أن نشير إلى ضرورة أن تظل الأفلام التي لا تغادر الذاكرة ضمن حيز المحبة والقبول النسبي بصورة أكثر قليلا من تلك التي تناول بها الكاتب المثال المشار إليه.
أخيرا: هذا كتاب ننصح به لكل من لم يشاهد أي من مجموعة الافلام المختارة بغرض تحفيز مبدأ الترشيحات الجميلة. وهو أيضا كتاب برائحة النوستالجيا التي لا شك سوف تدفع البعض إلى إعادة المشاهدة – او التواصل العاطفي- لبعض من هذه (المواعيد الغرامية الرقيقة) فكثير منها لم يغادر فقط ذاكرة حسن حداد ولكن ذاكرتنا ايضا.