كتاب له وكتاب عنه” مع المخرج المبدع والناقد الرائد هاشم النحاس”

 

 

 

محمد بدر الدين

من أجمل ما صدر مؤخراً كتابان، أحدهما للناقد والمخرج هاشم النحاس عن سينما المخرج عاطف الطيب (صدر عن المجلس الأعلى للثقافة)، وهو بعنوان: “عاطف الطيب.. رائد الواقعية المصرية المباشرة”، والكتاب الثاني عن هاشم النحاس نفسه، أعده الناقد الكبير محمد عبد الفتاح، ويحوي مقالات وأبحاث من أعمق ما كتب عن هاشم النحاس سواء المخرج أو الناقد أو الإنسان (صدر عن الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما)، وهو بعنوان: “هاشم النحاس.. عمق الرؤيا وسحر الرؤية”، مأخوذاً عن عنوان إحدى دراسات الكتاب القيمة والتي كتبها المخرج والناقد الكبير سيد سعيد.

وفي هذا الكتاب الممتع و”النافع”، وبقدر ما هو كاشف يلقي الضوء على مبدع ومثقف سينمائي رائد، نقرأ عن النحاس بأقلام: سمير فريد، ود. محمد كامل القليوبي، وكمال رمزي، ود. مجدي عبد الرحمن، وعلي أبو شادي، ويوسف القعيد، وسيد سعيد، ود. ناجي فوزي، ود. أمل الجمل، وضياء حسني، ومحمود عبد الشكور، وأحمد شوقي، ورامي عبد الرازق، وشريف الدالي، ود. سلمى مبارك، ود. عنان محمد علي..

يقول سمير فريد (صفحة 8): “ذات مرة قال جودار: إنه لا يشعر بالفرق بين إخراج فيلم وكتابة النقد، فالفيلم عنده هو أيضاً نقد، ولكن بلغة أخرى، ولموضوع آخر، هو الحياة ذاتها. ويبدو هاشم النحاس، أيضاً، باحثاً سواء في كتبه ومقالاته، أو في أفلامه.. إنه يبحث ولكن موضوع البحث (كما في فيلميه “الناس والبحيرة”، و”في رحاب الحسين”): هو مصر، أو بالأحرى الشخصية المصرية، المكان والزمان والإنسان..”.

أما دراسة د.عنان محمد علي، وهي بعنوان “رؤية أنثروبولوجية لأفلام هاشم النحاس”، فتبدأ بالقول تحت العنوان الفرعي “من هو هاشم النحاس؟”: “.. مخرج مصري له تأثير نقدي وثقافي ومكانة رفيعة في مجال السينما التسجيلية، أثرى المكتبة السينمائية بالعديد من الكتب، مؤلفاً ومترجماً وباحثاً. قدم عام 1972 فيلمه: “النيل أرزاق” والذي اعتبر نقلة نوعية في تاريخ السينما التسجيلية المصرية. أسهم النحاس بفعالية في نشاطات المجتمع المدني، مشاركاً في تأسيس أهم الجمعيات السينمائية في مصر منذ عام 1960 ميلاد “جمعية الفيلم” أقدم وأعرق جمعيات السينما، مروراً بـ “جماعة السينما الجديدة” و”جمعية نقاد السينما المصريين” و”اتحاد السينمائيين التسجيليين العرب”. ولد عام 1937، وتتميز أفلامه بأسلوب خاص يتسم بالعشق للإنسان والمكان، بينما تنشغل كاميرته برصد التفاصيل، وما تحمله من معان. له العديد من الأفلام التي تناولت الإنسان المصري وحياته اليومية..” (ص 43).

وعن هذا الأسلوب وفي وصف هذه الأفلام، يكتب علي أبو شادي: “يتابع هاشم النحاس في معظم أعماله، رحلته مع هؤلاء البسطاء في حياتهم اليومية، كلهم في حالة عمل، ينسجون ملحمة البقاء… ونلمح في أفلامه ذلك الاقتراب الحميم من هؤلاء البشر، يحتضنهم، ويحنو عليهم، يبرز ملامح قوتهم في مواجهة قسوة الواقع.. يقول “هاشم النحاس” عن منهجه في التناول: لا أحب أن أركز على مرارة الواقع.. المرارة الحقيقية في نظري أن يفقد الإنسان ذاته، والإنسان المصري لم يفقد ذاته حتى الآن، رغم كل الحصار المضروب وكل الإعصارات التي تجتاحه.. وأملي أن أقف بجانبه في صموده بالكشف عن مواطن قوته.. أريد أن أطلع الناس على أفضل ما فيهم.. أن أؤكد أن الإنسان العادي الذي لم يذهب صيته بين الناس، المغمور، والمنسي هو بطل يستحق أن تخرج عنه الأفلام..” (ص 4)، مضيفاً أبو شادي: “هاشم النحاس واحد من البنائين الكبار “الشقيانين” كأبطال أفلامه التي سوف تظل مكتسبة أهميتها ـ إلى جانب قيمتها الفنية ـ لارتباطها الدائم، بتصور البسطاء الكادحين، ملح الأرض ـ لا المشاهير ـ وتقديم صورتهم على الشاشة، معلياً من شأن العمل، وهو يتابع رحلة كدهم، وهم ينشدون نشيد الحياة..” (ص 5).

وعما تتسم به أيضاً أفلام النحاس تكتب د. أمل الجمل: “اتسمت أفلام هاشم النحاس بالشاعرية والإنسانية والإحساس المرهف، بكثرة وبزوغ التفاصيل، وباختفاء التعليق الصوتي والأشياء الزاعقة، بالاعتماد أساساً على الصورة تدعمها الموسيقى والمؤثرات الصوتية، بتدفق المونتاج، باللقطات القريبة المشحونة بالمعاني، بالقرب الشديد من الإنسان، بغرس الشجن والأسى في نفس المتلقي، بلفت الأنظار إلى قوة وعفوية وعذوبة الإنسان المصري، بإضفاء مسحة من الرقة والحب والجمال لموضوعات خشنة بطبيعتها إن لم تكن شديدة الخشونة..” (ص 60).

أما عن هاشم النحاس نفسه، فيكتب الروائي يوسف القعيد: “.. لنجيب محفوظ عبارة تقول: المتلفت لا يصل. ولا أعرف إن كان قالها في وصف هاشم النحاس أم لا؟ لكن هاشم النحاس كان يعرف طريقه. وكانت له عينان على الطريق. ترى آخره قبل أن تعرف بداياته. من الأمور التي تجلى بها نجيب محفوظ ومازال هاشم النحاس متمسكاً بها أنه لم يكن ينظر لعيوب الناس. ولا يتوقف أمام الحفر الموجودة في شخصياتهم. ولكنه كان يتعامل مع كل ما هو إيجابي في الشخصية الإنسانية التي يجد نفسه في مواجهتها… لا أعرف إن كان هاشم النحاس قد أخذ هذه الخصلة من نجيب محفوظ؟ أم أنها جزء من تكوينه الإنساني؟..” (ص 7).

كذلك، فقد كتب سيد سعيد عن هاشم النحاس و”ملامح شخصيته”، في الدراسة التي أخذ عنها عنوان الكتاب، ملاحظات لابد يؤكد على دقتها، كل من عرف هاشم النحاس عن قرب ـ وبينهم كاتب هذه السطور الذي يعتز بذلك ويشرف ـ وقد كتبت هذه الملاحظات تحت عنوان فرعي جميل بقدر ما هو مدقق: “ما إن تراه حتى تبتهج لمرآه”.. والحق أنه ليس هناك أنسب من هذه الملاحظات قرب ختام وقفتنا أمام الكتاب فائق الأهمية.. نقول: “هاشم النحاس شخصية تتمتع بذكاء واضح وسرعة بديهة حاضرة، وهو شخص هادئ الطبع بشكل عام، ويستطيع أن يسيطر على انفعالاته إلا فيما ندر، إنساني النزعة حتى ليبدو عاطفياً، ورغم أنه يبدو كشخصية منفتحة واجتماعية لها القدرة على المشاركة، إلا أنه يبدو أحياناً كشخص لديه ميل إلى العزلة، يمتلك ثقة شديدة بالنفس، ويعرف هدفه جيداً، ومع ذلك يتمتع بقدرة فائقة للمرونة… هو من الأشخاص الذين تشعر بألفة تجاههم لأول وهلة، وهو ينصت إليك بقدر ما تحب، يميل إلى أن يتخذ قراراته بهدوء وروية، وبلا صخب، فهو شخصية متأملة، وصادقة مع نفسه ومع الآخرين، لا يميل إلى التحزب أو التعصب…” (ص119).

وقد ركز بعض الكتاب على أفلام هاشم النحاس، كالدكتور ناجي فوزي الذي اختص فيلم “النيل أرزاق” بدراسته، بينما ركزت أقلام أخرى على المؤلفات، مثلما كتب أحمد شوقي تحت عنوان “ماذا علمني هاشم النحاس؟” عن تأثير كتب النحاس عليه مثل كتاب “يوميات فيلم” (1967)، وكتاب “نجيب محفوظ على الشاشة” (1975)، وقد أعادت الهيئة العامة للكتاب طبع الكتابين، وكتاب “صلاح أبو سيف.. محاورات” (الذي صدر عنها أيضاً 1996).. وتوقف محمود عبد الشكور ملياً وبمحبة خاصة غامرة تجاه كتاب “يوميات فيلم” الذي يعد بحق تجربة استثنائية في كل المكتبة السينمائية، كما قرأنا مقدمة رائعة للدكتور محمد كامل القليوبي لطبعة جديدة ـ عن “الهيئة” أيضاً ـ لكتاب للنحاس، رائد و”مؤسس” بكل معنى الكلمة، تحت عنوان: “كتابات تأسيسية”.. أما كمال رمزي فقد ضم الكتاب مقاله حول: كتاب النحاس الأحدث.. عن عاطف الطيب. قائلاً عنه: “يقع الكتاب في (392) صفحة من القطع الكبير، يتابع فيها النحاس، نتاج الطيب منذ “الغيرة القاتلة” 1982… هذا الكتاب المتسم بالوعي، المكتوب بمداد المحبة، أكبر من عنوانه:”عاطف الطيب.. رائد الواقعية المصرية المباشرة”. لأن كلمة “المباشرة” توحي بتصوير ما يجري على السطح، بينما حقيقة، كما يبين النحاس، أن الطيب، يرى الواقع، وينفذ ببصيرته إلى جوهر ما يعتمل في أعماقه..” (ص 150). وعند هذا الكتاب آن أن نتوقف:

 

• النحاس.. وبحثه عن عاطف الطيب:

لنستمتع بكتاب مخرج السينما التسجيلية الكبير والناقد والباحث السينمائي القدير هاشم النحاس: “عاطف الطيب رائد الواقعية المصرية المباشرة”.. وفي الفصل الذي جاء بعنوان “مخرج عظيم”، يقول النحاس عن الطيب: “لم يكن عاطف الطيب مخرجاً عادياً يصنع أفلامه للتسلية أو التسرية أو التنفيس عن المكنونات، وإنما كان مخرجاً صاحب رؤية خاصة تتمثل في معظم أفلامه تجعل منه مخرجاً وفقاً لمفهوم “المخرج العظيم” كما طرحه كين دانسايجر في كتابه “فكرة الإخراج السينمائي”، وذلك على الرغم من أنه لم يكن يكتب أفلامه وإنما كتبها غيره، لكنه كان غالباً ما يتعاون مع كتاب بعينهم. كل منهم كتب له أكثر من فيلم ما يؤكد تقارب أفكاره مع أفكارهم، ومنهم بشير الديك (6 أفلام)، وحيد حامد (5 أفلام)، ومصطفى محرم (3 أفلام)، وفيلمين لكل من أسامة أنور عكاشة ورفيق الصبان والباقي ثلاثة أفلام فقط التي اختص كل منها بكاتب مختلف” (ص 23).

والحق أن الكتاب بدوره الذي كتبه هاشم النحاس عن عاطف الطيب.. ليس كتاباً عادياً، وإنما هو في تقديرنا “بحث عظيم” بكل معنى الكلمة، فإنه من طراز (الكتاب المرجع)، الذي ما أن يظهر حتى يجب الكثير مما كتب سواه في نفس الموضوع.. وفي هذا الكتاب لم يقدم النحاس فحسب رؤيته للطيب المخرج الفنان المتميز، رائد ما وصفه “بالواقعية المصرية المباشرة” (وقد شرح بالتفصيل ما يقصده بهذا التوصيف).. ولم يقدم فحسب رؤيته لعاطف الطيب الإنسان المتميز كذلك، الجاد والنبيل وسيرته الذاتية الراقية، وإنما بلغ جهد النحاس كذلك أن قدم ما يعرف “بتتابع المشاهد” لجميع أفلام الطيب، ولم يكتف بملخص وبيانات كل فيلم، كما أنه رصد ردود الفعل وأراء النقاد المتنوعة حول أفلام الطيب، والتي تبلغ (21 فيلماً)، ابتداء من “الغيرة القاتلة” عام 1982 وحتى آخرها “جبر الخواطر” في عام 1998.. وكما يقول النحاس: “لم تكن حياة الطيب طويلة رغم وفرة إنتاجه السينمائي نسبياً “21 فيلماً”، حيث توفى عن عمر يناهز 47 عاماً في 23 يونيو 1995” (ص 13).

• لقطات من الكتاب:

نقرأ في (ص 62).. على لسان عاطف الطيب، وحول رائعته “سواق الأتوبيس”: “أثناء العمل شعرنا أن اسم “حطمت قيودي” غير ملائم، فاقترح نور الشريف أن نسميه “سائق الأتوبيس” واقترحت الراحلة نبيلة السيد اسم “سواق الأتوبيس” ووافقنا عليه جميعاً دون تردد..”.

ونقرأ في (ص 372).. على لسان صلاح أبو سيف: “بفيلم وراء الآخر دخل عاطف الطيب إلى عقلي وقلبي بدرجة عجيبة. لم يعد بالنسبة لي مجرد مخرج متميز بين أبناء جيله.. أنه أيضاً يشبهني فكراً وفناً، وعندما كنت أشاهد أفلام الطيب كنت أتوقف أمام بعض المشاهد وأشعر كما لو كنت أنا الذي أخرجتها… إن شخصية مثل التي قدمها عاطف الطيب وأداها أحمد زكي في “الحب فوق هضبة الهرم” كنت سأقدمها بنفس الأسلوب إذا أخرجت أنا هذا الفيلم..”.

ونقرأ في (ص 380).. على لسان زوجة عاطف الطيب السيدة أشرف: “عاطف كان يقدم لنا نفسه بالصوت والصورة في شخوص أفلامه، وافتكر أن في “سواق الأتوبيس” شخصية “حسن” التي لعبها الفنان نور الشريف هي صورة طبق الأصل من عاطف بشخصيته وشهامته ورجولته، ووقوفه أمام مشاكل المجتمع ووقوفه مع أسرته لإنقاذ تجارة والده.. ونفس الحكاية مع “منتصر” أحمد زكي في فيلم “الهروب” فهو صورة طبق الأصل من عاطف الطيب في كل شئ، إلى جانب شخصية أخرى لعبها أحمد زكي في “الحب فوق هضبة الهرم”.. وكان عاطف دائماً يقول لي” الفيلم ده قريب جداً من قلبي لأنه كان فعلاً مشكلتي في وقت من الأوقات بعد التخرج ولما جيت أرتبط”..

أما نجيب محفوظ.. فيصف عاطف الطيب بأنه في السينما المصرية: “عميد الخط الواقعي الحديث”… إذ نقرأ على لسانه في (ص 371): “.. لقد قدمت لي السينما المصرية عشرات الأفلام لكني أعتقد أن “الحب فوق هضبة الهرم” من المعالجات السينمائية الجيدة التي لم تستغل الأصل الأدبي لأسباب لا تمت للأدب والفن بصلة، وإنما حولت القصة الأدبية إلى شكل سينمائي متميز جعل منها بالفعل علامة هامة في تطور السينما في مصر وجعل من مخرجها ـ بحق ـ رغم صغر سنه عميداً للخط الواقعي الحديث”…

وبعد، كما يذكر علي أبو شادي في مقاله التي أشرنا إليها، ضمن مقالات ودراسات كتاب “هاشم النحاس.. عمق الرؤيا وسحر الرؤية” (وهي مقالة نشرت في مارس 2013).. يقول محقاً: “في السابع والعشرين من هذا الشهر (مارس) أكمل هاشم النحاس عامه السادس والسبعين ـ متعه الله بالصحة والعافية وأضاء نور عينيه ـ أمضى منها ما يزيد على الخمسين عاماً في محراب السينما متذوقاً رهيفاً، وناقداً قديراً، ومخرجاً مبدعاً، ومترجماً دقيقاً، وباحثاً دؤوباً، وأستاذاً أميناً، ومفكراً سينمائياً رصيناً، ونموذجاً مشرفاً في لجان التحكيم بالمهرجانات على المستوى الوطني والقومي والدولي، وقوة دافعة لأجيال تالية، مع خلق رفيع وأفق رحب، وتواضع جم، متسماً بسماحة الصدر، وهدوء الأعصاب، وإيمان بحق الاختلاف، واحترام الرأي الآخر..” (ص 5).

إذ أن (في السابع والعشرين من مارس 2017)، العيد ٨٠ لهاشم النحاس، وعلينا، ولنا، أن نحتفل بهذا الرائد والمثل الأعلى الرائع، وبما يليق بقامته وإسهامه بكل هذا العطاء الوفير الرفيع، وبما يليق بثقافتنا الوطنية والإبداعات الحقة الراقية التي كافح وقدم الكثير انتصارا لها، إن على حياتنا الثقافية أن تجهز لهذا الاحتفاء الموضوعي العلمي، وفضلاً عن مؤسسات كمكتبة الإسكندرية فإن أولى الجهات المنوط بها ذلك، هي التي كان هاشم النحاس نفسه في مقدمة مؤسسيها، مثل جمعية الفيلم وجمعية نقاد السينما المصريين…

 

Scroll to Top